مُحَمَّدٌ، هُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ
مُحَمَّدٌ ، إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا ،
وَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ مِنْ مَحْمُودٍ ، فَإِنَّ مَحْمُودًا
مِنَ الثَّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ ،
وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْمُضَاعَفِ لِلْمُبَالَغَةِ ، فَهُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ
مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْبَشَرِ ، وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ
- سُمِّيَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لِكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ
الَّتِي وُصِفَ بِهَا هُوَ وَدِينُهُ وَأُمَّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ ،
حَتَّى تَمَنَّى
مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ
أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ هُنَاكَ ، وَبَيَّنَّا
غَلَطَ
أبي القاسم السهيلي حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ ، وَأَنَّ اسْمَهُ فِي التَّوْرَاةِ
أَحْمَدُ .
وَأَمَّا
أَحْمَدُ ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أَيْضًا
مِنَ الْحَمْدِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى
فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ
، أَيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ ،
فَمَعْنَاهُ : أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ ، وَرَجَّحُوا هَذَا
الْقَوْلَ بِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يُصَاغَ مِنْ فِعْلِ
الْفَاعِلِ لَا مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، قَالُوا :
وَلِهَذَا لَا يُقَالُ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا ، وَلَا زَيْدٌ أَضْرَبُ مِنْ
عَمْرٍو ، بِاعْتِبَارِ الضَّرْبِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ ، وَلَا : مَا
أَشْرَبَهُ لِلْمَاءِ ، وَآكَلَهُ
-
- لِلْخُبْزِ ، وَنَحْوِهِ ، قَالُوا : لِأَنَّ أَفْعَلَ
التَّفْضِيلِ وَفِعْلَ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا يُصَاغَانِ مِنَ الْفِعْلِ
اللَّازِمِ ، وَلِهَذَا يُقَدَّرُ نَقْلُهُ مِنْ " فَعَلَ " وَ" فَعِلَ "
الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ وَمَكْسُورِهَا ، إِلَى " فَعُلَ " الْمَضْمُومِ
الْعَيْنِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى
الْمَفْعُولِ ، فَهَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ ، كَقَوْلِكَ : مَا أَظْرَفَ
زَيْدًا ، وَأَكْرَمَ عَمْرًا ، وَأَصْلُهُمَا : مِنْ ظَرُفَ وَكَرُمَ .
قَالُوا : لِأَنَّ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ فَاعِلٌ فِي الْأَصْلِ ، فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، قَالُوا : وَأَمَّا نَحْوُ :
مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو ، فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ " فَعَلَ "
الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ إِلَى " فَعُلَ " الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ ، ثُمَّ
عُدِّيَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالْهَمْزَةِ ، قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ مَجِيئُهُمْ بِاللَّامِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَضْرَبَ زَيْدًا
لِعَمْرٍو ، وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى تَعَدِّيهِ ، لَقِيلَ : مَا
أَضْرَبَ زَيْدًا عَمْرًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ،
وَإِلَى الْآخَرِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ ، فَلَمَّا أَنْ عَدَّوْهُ
إِلَى الْمَفْعُولِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَدَّوْهُ إِلَى الْآخَرِ
بِاللَّامِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ أَنْ قَالُوا :
إِنَّهُمَا لَا يُصَاغَانِ إِلَّا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، لَا مِنَ
الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ .
وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ ، وَقَالُوا : يَجُوزُ صَوْغُهُمَا مِنْ
فِعْلِ الْفَاعِلِ ، وَمِنَ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، وَكَثْرَةُ
السَّمَاعِ بِهِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهِ ، تَقُولُ
الْعَرَبُ : مَا أَشْغَلَهُ بِالشَّيْءِ ، وَهُوَ مِنْ شُغِلَ فَهُوَ
مَشْغُولٌ ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ مَا أَوْلَعَهُ بِكَذَا ، وَهُوَ مِنْ
أُولِعَ بِالشَّيْءِ فَهُوَ مُولَعٌ بِهِ ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ
إِلَّا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَا أَعْجَبَهُ بِكَذَا ، فَهُوَ مِنْ
أُعْجِبَ بِهِ ، وَيَقُولُونَ مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ
فِعْلِ الْمَفْعُولِ ، وَكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَكُ ، وَكَذَا : مَا
أَبْغَضَهُ إِلَيَّ ، وَأَمْقَتَهُ إِلَيَّ .
وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا
سِيبَوَيْهِ ، وَهِيَ أَنَّكَ تَقُولُ : مَا أَبْغَضَنِي لَهُ ، وَمَا أَحَبَّنِي
لَهُ ، وَمَا أَمْقَتَنِي لَهُ : إِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُبْغِضَ
الْكَارِهَ ، وَالْمُحِبَّ الْمَاقِتَ ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِنْ
فِعْلِ الْفَاعِلِ ، وَتَقُولُ : مَا أَبْغَضنِي إِلَيْهِ ، وَمَا
أَمْقَتَنِي إِلَيْهِ ، وَمَا أَحَبَّنِي إِلَيْهِ : إِذَا كُنْتَ أَنْتَ
الْبَغِيضُ الْمَمْقُوتُ ، أَوِ الْمَحْبُوبُ ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا
مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، فَمَا كَانَ بِاللَّامِ
فَهُوَ لِلْفَاعِلِ ، وَمَا كَانَ بِـ " إِلَى " فَهُوَ لِلْمَفْعُولِ .
وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ لَا يُعَلِّلُونَ بِهَذَا ، وَالَّذِي يُقَالُ فِي
عِلَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ : إِنَّ اللَّامَ
- تَكُونُ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَعْنَى ، نَحْوُ قَوْلِكَ :
لِمَنْ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : لِزَيْدٍ ، فَيُؤْتَى بِاللَّامِ . وَأَمَّا "
إِلَى " فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى ، فَتَقُولُ : إِلَى مَنْ
يَصِلُ هَذَا الْكِتَابُ ؟ فَتَقُولُ : إِلَى عَبْدِ اللَّهِ ، وَسِرُّ
ذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ ،
وَالِاسْتِحْقَاقُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي يَمْلِكُ
وَيَسْتَحِقُّ ، وَ" إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، وَالْغَايَةُ
مُنْتَهَى مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ فَهِيَ بِالْمَفْعُولِ أَلْيَقُ ؛
لِأَنَّهَا تَمَامُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ ، وَمِنَ التَّعَجُّبِ مِنْ فِعْلِ
الْمَفْعُولِ قَوْلُ
كعب بن زهير فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ |
| وَقِيلَ إِنَّكَ مَحْبُوسٌ وَمَقْتُولُ |
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ |
| بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ |
|
فَأَخْوَفُ هَاهُنَا ، مِنْ خِيفَ فَهُوَ مَخُوفٌ لَا مِنْ خَافَ ،
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَا أَجَنَّ زَيْدًا ، مِنْ جُنَّ فَهُوَ
مَجْنُونٌ ، هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ .
قَالَ
الْبَصْرِيُّونَ : كُلُّ هَذَا شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، فَلَا نُشَوِّشُ بِهِ
الْقَوَاعِدَ ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى الْمَسْمُوعِ ، قَالَ
الْكُوفِيُّونَ : كَثْرَةُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَنَظْمًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ
عَلَى الشُّذُوذِ ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَا خَالَفَ اسْتِعْمَالَهُمْ
وَمُطَّرِدَ كَلَامِهِمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ ، قَالُوا :
وَأَمَّا تَقْدِيرُكُمْ لُزُومَ الْفِعْلِ وَنَقْلَهُ إِلَى فَعُلَ
فَتَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَمَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ مِنَ
التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا
كَمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَيْسَتْ
لِلتَّعْدِيَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى
التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ فَقَطْ ، كَأَلِفِ " فَاعِلٍ " وَمِيمِ "
مَفْعُولٍ " وَوَاوِهُ وَتَاءِ الِافْتِعَالِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَنَحْوِهَا
مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي تَلْحَقُ الْفِعْلَ الثَّلَاثِيَّ لِبَيَانِ
مَا لَحِقَهُ مِنَ الزَّيَادَةِ عَلَى مُجَرَّدِهِ ، فَهَذَا هُوَ
السَّبَبُ الْجَالِبُ لِهَذِهِ الْهَمْزَةِ لَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ .
قَالُوا : وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّى
- بِحَرْفِ الْجَرِّ وَبِالتَّضْعِيفِ ، نَحْوُ : جَلَسْتُ
بِهِ وَأَجْلَسْتُهُ وَقُمْتُ بِهِ وَأَقَمْتُهُ ، وَنَظَائِرِهِ ، وَهُنَا
لَا يَقُومُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ غَيْرُهَا ،فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
لِلتَّعْدِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّهَا تُجَامِعُ بَاءَ
التَّعْدِيَةِ ، نَحْوُ : أَكْرِمْ بِهِ وَأَحْسِنْ بِهِ ، وَلَا يُجْمَعُ
عَلَى الْفِعْلِ بَيْنَ تَعْدِيَتَيْنِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَا أَعْطَاهُ لِلدَّرَاهِمِ ،
وَأَكْسَاهُ لِلثِّيَابِ ، وَهَذَا مِنْ أَعْطَى وَكَسَا الْمُتَعَدِّي ،
وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إِلَى " عَطَوَ " : إِذَا تَنَاوَلَ
ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى ،
فَإِنَّ التَّعَجُّبَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ إِعْطَائِهِ ، لَا مِنْ
عَطْوِهِ وَهُوَ تَنَاوُلُهُ ، وَالْهَمْزَةُ الَّتِي فِيهِ هَمْزَةُ
التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ ، وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ الَّتِي فِي فِعْلِهِ
فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي نَحْوِ :
مَا أَضْرَبَهُ لِزَيْدٍ . . . إِلَى آخِرِهِ ، فَالْإِتْيَانُ بِاللَّامِ
هَاهُنَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا
أُتِيَ بِهَا تَقْوِيَةً لَهُ لَمَّا ضَعُفَ بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ ،
وَأُلْزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً خَرَجَ بِهَا عَنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ ،
فَضَعُفَ عَنِ اقْتِضَائِهِ وَعَمَلِهِ ، فَقَوِيَ بِاللَّامِ كَمَا
يَقْوَى بِهَا عِنْدَ تَقَدُّمِ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ
فَرْعِيَّتِهِ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا تَرَاهُ .
فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ : تَقْدِيرُ أَحْمَدَ عَلَى
قَوْلِ الْأَوَّلِينَ : أَحْمَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ ، وَعَلَى قَوْلِ
هَؤُلَاءِ : أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِأَنْ يُحْمَدَ ، فَيَكُونُ
كَمُحَمَّدٍ فِي الْمَعْنَى ، إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ "
مُحَمَّدًا " هُوَ كَثِيرُ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَ"
أَحْمَدُ " هُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَفْضَلَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ ،
فَمُحَمَّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمِّيَّةِ ، وَأَحْمَدُ فِي الصِّفَةِ
وَالْكَيْفِيَّةِ ، فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمَّا
يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ، وَأَفْضَلَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ،
فَيُحْمَدُ أَكْثَرَ حَمْدٍ وَأَفْضَلَ حَمْدٍ حَمِدَهُ الْبَشَرُ .
فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي
مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنًى . وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِلِ
لَسُمِّيَ الْحَمَّادَ ، أَيْ كَثِيرَ الْحَمْدِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبِّهِ ،
فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبِّهِ لَكَانَ
الْأَوْلَى بِهِ الْحَمَّادَ كَمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إِنَّمَا اشْتُقَّا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَخَصَائِصِهِ
- الْمَحْمُودَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ أَنْ
يُسَمَّى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَحْمَدُ
وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ
الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةُ ؛ لِكَثْرَةِ خَصَائِلِهِ الْمَحْمُودَةِ
الَّتِي تَفُوقُ عَدَّ الْعَادِّينَ وَإِحْصَاءَ الْمُحْصِينَ ، وَقَدْ
أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا
هَاهُنَا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً اقْتَضَتْهَا حَالُ الْمُسَافِرِ وَتَشَتُّتُ
قَلْبِهِ وَتَفَرُّقُ هِمَّتِهِ ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ
التَّكْلَانُ .
وَأَمَّا اسْمُهُ الْمُتَوَكِّلُ ، فَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنْ (
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، عَبْدِي وَرَسُولِي ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ ،
لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا
يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ، وَلَنْ
أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ، بِأَنْ
يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى
اللَّهِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ تَوَكُّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ
غَيْرُهُ .
وَأَمَّا
الْمَاحِي ،
وَالْحَاشِرُ ،
وَالْمُقَفِّي ،
وَالْعَاقِبُ ، فَقَدْ فُسِّرَتْ فِي حَدِيثِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، فَالْمَاحِي : هُوَ الَّذِي مَحَا اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ،
وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهُمْ مَا
بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى
ضَالِّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبًّا وَلَا مَعَادًا ،
وَبَيْنَ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ ، وَعُبَّادِ النَّارِ ، وَفَلَاسِفَةٍ
لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا ،
فَمَحَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ
- بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى
كُلِّ دِينٍ ، وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ،
وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ .
وَأَمَّا
الْحَاشِرُ ، فَالْحَشْرُ هُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ
النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النَّاسُ .
وَالْعَاقِبُ : الَّذِي جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ ،
فَإِنَّ الْعَاقِبَ هُوَ الْآخِرُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ ،
وَلِهَذَا سُمِّيَ الْعَاقِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، أَيْ : عَقِبَ
الْأَنْبِيَاءَ جَاءَ بِعَقِبِهِمْ .
وَأَمَّا الْمُقَفِّي فَكَذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي قَفَّى عَلَى آثَارِ
مَنْ تَقَدَّمَهُ ، فَقَفَّى اللَّهُ بِهِ عَلَى آثَارِ مَنْ سَبَقَهُ
مِنَ الرُّسُلِ ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَفْوِ ،
يُقَالُ : قَفَاهُ يَقْفُوهُ : إِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَمِنْهُ :
قَافِيَةُ الرَّأْسِ ، وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ ، فَالْمُقَفِّي :
الَّذِي قَفَّى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَكَانَ خَاتَمَهُمْ
وَآخِرَهُمْ .
وَأَمَّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ : فَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ
بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
تَوْبَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَهُ . وَكَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ النَّاسِ اسْتِغْفَارًا
وَتَوْبَةً ، حَتَّى كَانُوا يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ
مِائَةَ مَرَّةٍ : (
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ) .
وَكَانَ يَقُولُ : (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) ، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمَّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَأَسْرَعُ
- قَبُولًا وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا ، وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ ، حَتَّى كَانَ مِنْ تَوْبَةِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمَّا هَذِهِ
الْأُمَّةُ فَلِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتَهَا
النَّدَمَ وَالْإِقْلَاعَ .
وَأَمَّا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، فَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ
أَعْدَاءِ اللَّهِ ، فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيٌّ وَأُمَّتُهُ قَطُّ مَا
جَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ ،
وَالْمَلَاحِمُ الْكِبَارُ الَّتِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمَّتِهِ
وَبَيْنَ الْكُفَّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ
أُمَّتَهُ يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى
تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِمِ مَا
لَمْ تَفْعَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهُمْ .
وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ
مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النَّصِيبَ
الْأَوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ
مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلِّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ ، وَأَمَّا
مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمَّتُهُ فَإِنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ إِلَى
النَّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَا
يَزْدَادُ بِهَا إِلَّا شِدَّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا الْفَاتِحُ ، فَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بَابَ
الْهُدَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْتَجًا ، وَفَتَحَ بِهِ الْأَعْيُنَ
الْعُمْيَ وَالْآذَانَ الصُّمَّ وَالْقُلُوبَ الْغُلْفَ ، وَفَتَحَ اللَّهُ
بِهِ أَمْصَارَ الْكُفَّارِ ، وَفَتَحَ بِهِ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ،
وَفَتَحَ بِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
فَفَتَحَ بِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَمْصَارَ .
وَأَمَّا الْأَمِينُ ، فَهُوَ أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاسْمِ ،
فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَدِينِهِ ، وَهُوَ أَمِينُ مَنْ
فِي السَّمَاءِ ، وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَلِهَذَا كَانُوا
يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الْأَمِينَ .
وَأَمَّا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ ، فَاسْمَانِ مُزْدَوِجَانِ لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ ،
- فَإِنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
عَابِسٍ وَلَا مُقَطِّبٍ وَلَا غَضُوبٍ وَلَا فَظٍّ ، قَتَّالٌ لِأَعْدَاءِ
اللَّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ .
وَأَمَّا الْبَشِيرُ ، فَهُوَ الْمُبَشِّرُ لِمَنْ أَطَاعَهُ
بِالثَّوَابِ ، وَالنَّذِيرُ الْمُنْذِرُ لِمَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ ،
وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَبْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهَا ،
قَوْلُهُ : (
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) [ الْجِنِّ : 20 ] وَقَوْلُهُ : (
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الْفُرْقَانِ : 1 ] وَقَوْلُهُ : (
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) [ النَّجْمِ : 10 ] وَقَوْلُهُ : (
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) [ الْبَقَرَةِ : 23 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ : (
أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] وَلَا فَخْرَ ) وَسَمَّاهُ اللَّهُ سِرَاجًا مُنِيرًا ، وَسَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا وَهَّاجًا .
وَالْمُنِيرُ : هُوَ الَّذِي يُنِيرُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاقٍ ، بِخِلَافِ الْوَهَّاجِ فَإِنَّ فِيهِ نَوْعُ إِحْرَاقٍ وَتَوَهُّجٍ .